ليس كل قلبٍ جاهزًا للحب
برامج التأهيل للزواج: هل تصلح القلوب قبل أن تشتعل نيران الطلاق؟
في عالمٍ باتت فيه العلاقات مثل بيوت الزجاج، شفّافة لكنها هشّة، ومع تسارع الحياة وتعقّد تشابكاتها، أصبح الزواج رحلةً تجري بين ضفتين: ضفة الحلم الذي صُنع من ضوء القمر، وضفة الواقع الذي صُنع من عرق النهار. وبينهما، تُبحر قوارب الأزواج، بعضهم يملك شراع الحكمة، وبعضهم تُغرقه الأمواج قبل أن يبلغ المرسى. وهنا، تتساءل النفس البشرية، هل يمكن لبرامج التأهيل للزواج أن تكون بوصلةً تهدي المسافرين على هذا الطريق المليء بالعواصف؟
الزواج في العصر الحديث: حلم أم امتحان؟
لم يعد الزواج في هذا العصر يشبه قصص الجدات، حيث العهد يُعقد على بساط البساطة، وحيث الأدوار تُرسم كما تُرسم خيوط النول في نسيجٍ معلوم. لقد تبدّلت الموازين، واختلطت الأدوار حتى باتت العلاقات الزوجية حلبةً يتصارع فيها العمل والبيت، الطموح والواجب، الاستقلالية والمشاركة.
تشير دراسة أجراها عالم النفس جون غوتمان (Gottman, 1994) إلى أن أكثر من 80% من الأزواج الذين ينفصلون، يفعلون ذلك بسبب ضعف مهارات التواصل العاطفي، وليس بسبب الخيانة أو المشكلات المالية كما يعتقد البعض. في هذه الدراسة، تبيّن أن الأزواج الذين يتمكنون من التعبير عن مشاعرهم دون نقدٍ جارح أو دفاعية مفرطة، هم الأكثر قدرةً على الحفاظ على زواجٍ مستقر.
لكن، في ظل الضغوط الاقتصادية، وطغيان العمل على الحياة الأسرية، ووسائل التواصل الاجتماعي التي تصنع مقارنات زائفة، كيف يمكن لقلوبٍ مرهقة أن تظلّ تنبض بالودّ؟
برامج التأهيل للزواج: رياحٌ تعيد السفينة إلى مسارها
إن برامج التأهيل للزواج، إذا صُممت بحكمة، يمكنها أن تكون بمثابة يدٍ تُمسك بالقلوب قبل أن تتصدّع. لكنها ليست مجرد جلساتٍ وعظية تُلقّن فيها القيم، بل يجب أن تكون مدرسةً تعلّم الزوجين كيف يقرآن لغة العيون، ويفهمان صمت الآخر قبل صوته، ويدركان أن الحب، وإن كان ناراً تشعل البداية، فإنه يحتاج إلى زيت الحكمة ليستمر مشتعلاً دون أن يحترق.
1. تعلم فن التواصل العاطفي
في دراسة نشرها عالم النفس دانيال غولمان (Goleman, 1995)، أشار إلى أن الذكاء العاطفي هو العامل الأكثر تأثيرًا في نجاح العلاقات الزوجية. فالقدرة على تهدئة النفس في لحظات الغضب، والاستماع بتعاطف، وإدراك مشاعر الشريك دون إطلاق الأحكام، كلها عوامل تحمي العلاقة من الانهيار.
لذا، ينبغي أن تركز برامج التأهيل للزواج على تدريب الأزواج على التواصل غير العنيف (Nonviolent Communication)، وهو أسلوبٌ يعزز الفهم المتبادل، بدلاً من الدخول في دوامات اللوم والاتهامات.
2. إدارة التوقعات: من الرومانسية الحالمة إلى الواقع العاقل
كم من قلوبٍ أُثقلت تحت وطأة التوقعات المثالية! يدخل البعض إلى الزواج كما لو كان مدينةً ساحرةً لا تعرف التعب، ثم يُفاجأون بأن المدينة تحتاج إلى عمال، لا إلى سياح.
أظهرت الأبحاث أن أحد أهم أسباب الطلاق هو فجوة التوقعات بين ما يتخيله الزوجان عن الزواج، وما يواجهانه بالفعل (Fowers & Olson, 1986). لذا، ينبغي أن تتضمن برامج التأهيل جلساتٍ لمناقشة التوقعات الواقعية، بدءًا من تقسيم الأدوار، مرورًا بالتعامل مع الأزمات المالية، وصولًا إلى كيفية إبقاء جذوة الحب مشتعلة رغم الروتين.
3. التدريب على حل النزاعات بطرقٍ صحية
يقول غوتمان في كتابه "The Seven Principles for Making Marriage Work" إن الطريقة التي يتجادل بها الزوجان تحدد ما إذا كان زواجهما سينجح أم يفشل. فالنزاعات ليست العدو الحقيقي، بل أسلوب التعامل معها هو الفارق بين بيتٍ تُنير نوافذه رغم العواصف، وبيتٍ تُكسر أبوابه عند أول ريح.
لهذا، فإن أحد أهم محاور برامج التأهيل هو تعليم الأزواج كيفية إدارة النزاعات بطريقة بنّاءة، باستخدام تقنيات مثل:
"أنا أشعر بـ..." بدلاً من "أنت دائماً تفعل..." لتجنب الدفاعية.
الاستراحة العاطفية عند تصاعد التوتر، لمنع الانفعالات غير العقلانية.
البحث عن حلول وسطى بدلاً من التمسك بالمواقف الفردية.
4. الاستعداد النفسي للزواج: ليس كل قلبٍ جاهزًا للحب
أحد الأخطاء الشائعة هو الاعتقاد بأن جميع الأفراد مستعدون للزواج لمجرد أنهم بلغوا سنّ الزواج. لكن الواقع يقول غير ذلك.
تشير الأبحاث إلى أن الاستقرار النفسي للفرد قبل الزواج يلعب دورًا جوهريًا في نجاح العلاقة (Karney & Bradbury, 1995). فالذي لم يشفَ من جراح الطفولة، والذي لم يتعلم كيف يواجه مخاوفه دون إسقاطها على شريكه، سيجد نفسه يعيد إنتاج نفس الأنماط السلبية داخل العلاقة الزوجية.
لذلك، يجب أن تتضمن برامج التأهيل للزواج تقييمًا نفسياً يساعد الأفراد على فهم أنفسهم أولًا قبل أن يسألوا أنفسهم: "هل أنا مستعد لهذا الالتزام؟".
هل تحد هذه البرامج من نسب الطلاق؟
قد لا تكون هذه البرامج عصًا سحرية تُبقي جميع القلوب متماسكة، لكنها بالتأكيد توفر للأزواج أدواتٍ تجعل الحب أكثر وعيًا ونضجًا.
تشير دراسة أجرتها جامعة ديوك إلى أن الأزواج الذين خضعوا لبرامج تأهيل قبل الزواج كانوا أقل عرضةً للطلاق بنسبة 31% مقارنةً بمن لم يتلقوا أي تدريب (Stanley et al., 2006). وهذا يؤكد أن الزواج، كأي مهارةٍ أخرى، يحتاج إلى تعلمٍ وإعداد، وليس مجرد أمنياتٍ طيبة.
الخاتمة: الحب وحده لا يكفي!
إن الحب، على عذوبته، يشبه النهر، يمكن أن يكون هادئًا، ويمكن أن يتحول إلى طوفانٍ هائج إن لم يعرف أصحابه كيف يبنون له السدود.
إن برامج التأهيل للزواج ليست مجرد أوراقٍ توقّع قبل الدخول إلى العش الزوجي، بل هي تدريبٌ على فهم لغة القلوب، ومهارةٌ في بناء جسور الحوار، وإدراكٌ أن الزواج ليس حديقةً تُزهر وحدها، بل بستانٌ يحتاج إلى مزارعين يعرفون كيف يسقونه بالصبر، ويسمدونه بالتفاهم، ويحرسونه من ريح الإهمال.
فهل آن الأوان أن ننظر إلى الزواج بعين الحكمة، بدلًا من تركه رهينةً للقدر؟