إدارة القدرات والطاقة أفضل من إدارة الوقت -  منظور نفسي واستراتيجيات عملية 

في عالم تتزايد فيه الضغوط اليومية وتتسارع وتيرة العمل، كثيرًا ما يُنصح الأفراد بتحسين إدارة وقتهم كوسيلة لتحقيق الإنتاجية والتوازن. ولكن، هل المشكلة الحقيقية تكمن في الوقت؟ أم أن الطاقة والقدرات البشرية هي العنصر الأكثر تأثيرًا؟ تشير الأبحاث النفسية الحديثة إلى أن إدارة الطاقة والقدرات هي المفتاح الحقيقي للأداء الفعال والرفاهية، وليس مجرد تنظيم الوقت بشكل صارم.

أولًا: لماذا إدارة الوقت ليست كافية؟

إدارة الوقت تعتمد على فكرة أن اليوم يتكون من 24 ساعة، ويجب توزيع المهام داخل هذا الإطار الزمني لتحقيق الإنتاجية. لكن الواقع يقول إن القدرة على التركيز، الإبداع، واتخاذ القرارات تختلف على مدار اليوم، وهذا ما تؤكده دراسات علم النفس المعرفي.

الدليل النفسي: منحنيات الطاقة البشرية

وجد الباحثون Baumeister & Tierney (2011) أن الإرادة والطاقة العقلية موارد محدودة، فمثلاً عند اتخاذ قرارات صعبة أو بذل مجهود فكري كبير في الصباح، تتراجع القدرة على التركيز والإنتاج في فترة ما بعد الظهيرة.

دراسة أخرى نشرتها Harvard Business Review أوضحت أن الأشخاص يكونون أكثر إنتاجية في الصباح الباكر أو بعد فترات استراحة، بينما تقل القدرة العقلية بعد الظهر.

هذا يعني أن إدارة الوقت بدون مراعاة متى يكون الشخص في قمة طاقته قد تؤدي إلى انخفاض الأداء والشعور بالإجهاد.

ثانيًا: إدارة القدرات والطاقة - مفهوم أعمق وأكثر كفاءة

بدلاً من التفكير في "كيف يمكنني إنجاز كل هذه المهام في 8 ساعات؟"، علينا أن نسأل "كيف أستطيع استثمار طاقتي في المهام التي تتطلب أقصى تركيز؟". هذا التحول في التفكير يساعد على تحقيق نتائج أفضل بدون الشعور بالإرهاق.

1. العمل وفق إيقاعات الطاقة الطبيعية (Chronotype)

 يعتمد كل شخص على إيقاع بيولوجي مختلف يؤثر على مستويات الطاقة خلال اليوم. يحدد علماء النفس ثلاثة أنماط رئيسية:

     الأشخاص الصباحيون: يكونون في أعلى مستويات الطاقة في الصباح.

     الأشخاص المسائيون: يصلون إلى ذروة الإبداع والتركيز في الليل.

     الأشخاص المتوسطون: لديهم طاقة متوازنة بين فترات النهار والليل.

 استراتيجية مفيدة: حدد نمطك البيولوجي من خلال مراقبة أوقات الذروة لديك، ثم جدول المهام الذهنية الثقيلة مثل التحليل أو الكتابة في تلك الفترات، واترك المهام الروتينية للأوقات الأقل طاقة.

2. استثمار الطاقة في المهام ذات الأولوية (Energy Investment)

بدلاً من تقسيم الوقت بالتساوي، ركّز على تخصيص طاقتك لأهم المهام. قد يكون لديك 5 ساعات للعمل، لكن ساعتان من التركيز العميق قد تكون أكثر إنتاجية من 10 ساعات من العمل المشتت.

مثال تطبيقي: إذا كنت تعمل في مجال يتطلب التفكير العميق مثل البحث أو التصميم، اجعل المهام الإبداعية في الفترة التي تشعر فيها بطاقة عالية، واترك الاجتماعات أو الرد على الإيميلات لفترات الطاقة المنخفضة.

3. العمل وفق تقنية "إدارة الطاقة المتجددة"

يطرح Tony Schwartz في كتابه The Power of Full Engagement مفهوم أن العمل المستمر يقلل من الإنتاجية، بينما فترات الراحة والاسترخاء تعزز الأداء.

 استراتيجية مفيدة:

    استخدم تقنية بومودورو (25 دقيقة عمل مكثف + 5 دقائق راحة).

    خذ فترات استراحة نشطة مثل المشي أو التأمل لاستعادة الطاقة العقلية.

    لا تهمل النوم والتغذية، فهما وقود الطاقة الجسدية والعقلية.

دراسة داعمة: بحث أجرته جامعة ستانفورد أظهر أن الأشخاص الذين يأخذون استراحات قصيرة خلال العمل يكونون أكثر إبداعًا بنسبة 40% مقارنة بمن يعملون لساعات متواصلة.

4. الفصل بين المهام العقلية والبدنية والعاطفية

كل نوع من الأنشطة يستهلك نوعًا مختلفًا من الطاقة:

    المهام العقلية تحتاج إلى تركيز (مثل التخطيط، التحليل، الكتابة).

    المهام البدنية تحتاج إلى جهد جسدي (مثل التنقل، الأعمال المنزلية).

     المهام العاطفية تحتاج إلى انخراط وجداني (مثل التحدث مع الآخرين، الاستماع، حل النزاعات).

 استراتيجية مفيدة: لا تجمع أكثر من نوعين من المهام الثقيلة في نفس الفترة. مثلاً، لا تقم بتحليل بيانات ثم الدخول في اجتماع مهم بعدها مباشرة؛ بل افصل بينهما بنشاط بدني خفيف مثل المشي.

إنتاجية عالية بأقل جهد

إدارة الوقت وحدها لم تعد كافية لتحقيق الإنجاز الحقيقي. بدلاً من محاولة التحكم في الساعات، ركّز على استثمار طاقتك بذكاء. عبر فهم إيقاع طاقتك، العمل في فترات الذروة، أخذ فترات استراحة استراتيجية، وتنويع نوعية المهام، يمكنك تحقيق أداء أعلى مع مجهود أقل.

القاعدة الذهبية: لا يتعلق الأمر بعدد الساعات التي تعمل فيها، بل بجودة الطاقة التي تستثمرها.